من الصفات الذميمة، والأخلاق اللئيمة، التي تفشت في مجتمعات المسلمين عامة في هذا العصر، وفي مجتمعنا السوداني بصفة خاصة، خلف الوعد، والذي عده رسولنا صلى الله عليه وسلم علامة من علامات النفاق، وآية من آياته، وسمة من سمات سوء الأخلاق، فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
ورسولنا الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم لم يأمر بشيء إلا كان أول العاملين له، ولم ينه عن شيء إلا كان أول المنتهين عنه، وكان يعلِّم أصحابه بأفعاله وتصرفاته قبل أقواله، ولهذا كان هو وأبوه إسماعيل عليهما السلام آية في صدق الوعد، حتى عرفا بذلك واشتهرا به: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً".
قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها: (وخصَّه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً، كالتلقيب بنحو الحليم، والأواه، والصدَِّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
إلى أن قال:
واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدي، وقيل: وعد رجلاً أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجلَ يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت هاهنا في انتظارك منذ أمس، وقيل: انتظره ثلاثة أيام، وقد فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ذكره النقاش، وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبي الحَمْساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة، فجئتُ، فإذا هو في مكانه، فقال: "يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك"
كانت العرب في جاهليتها قبل الإسلام تمدح بصدق الوعد، وتذم وتهجو بخلف الوعد، وكان عرقـوب بن سعيد التميمي مضرب أمثال العرب في خلفه المواعيد، حتى قال كعب بن زهير رضي الله عنه:
أضحت مواعيد عرقوب لها مثلاً ***** وما مواعيدهـا إلا الأباطيــل
وكان السموأل بن عاديا مضرب المثل عندهم في الوفاء بالوعود، وحفظ الأمانة، ومما جاء في ذلك من أشعارهم:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ***** مَذِق اللسان يقـول ما لا يفعـل
و:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة ***** نعم يقضها والحر للوأى ضامن
فخلف الوعد حرام، ومن الكبائر، وهو من باب الكذب البين.
وخلف الوعد قبيح من كل مسلم، ولكن قبحه أشد إذا صدر من أهل العلم والفضل، والإكثار من المواعيد مظنة لخلف الوعد.
ومما يؤسف له أن خلف الوعد عن حضور الاجتماعات في الوزارات، والمجالس، والهيئات، والشركات، والاجتماعات العامة، والتأخير الكثير في حضور من حضرها، أصبح من المظاهر السيئة المألوفة، ومن العادات القبيحة المعهودة.
وبدلاً من أن يُعاقب هؤلاء ويحاسبوا ويثرب عليهم يقع العقاب على من التزم بالمواعيد ووفى بها، حيث ينتظر الساعات الطوال، وفي بعض الأحيان يُفض الاجتماع وتحدد له مواعيد أخرى، وفي الغالب فإن سلوك المجتمعين في المواعيد الجديدة لا يختلف كثيراً عن سلوكهم الأول، ويندر أن يكون هناك اعتذار مسبق، ومما يؤسف له كذلك أن من وفى بوعده شُبِّه بالكفار، بدلاً من أن يمدح باقتدائه بالأنبياء والسلف الصالح.
خطورة خلف الوعد تكمن في ضياع ساعات العمر، وعدم الاستفادة منه بالقدر المطلوب شرعاً، وفي ذلك خسارة لا تعدلها خسارة.
ومما يتعلق بخلف الوعد من الأحكام الشرعية الوفاء بالعِدَة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "العِدَة دين"، وفي الأثر: "وَأيُ المؤمن واجب".
واختلف العلماء فيمن وعد أحداً بهبة، أووصية، أوقرض، أومنيحة، أوعمرة، أورقبى، أوقضاء دَين، هل يجب الوفاء عليه أم لا؟ على قولين.
قال القرطبي: (قال مالك: إذا سأل الرجلُ الرجلَ أن يهب له الهبة، فيقول له: نعم؛ ثم يبدو له أن لا يفعل، فما أرى يلزمه؛ قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دَين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي، وسائر الفقهاء: إن العِدَة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية، لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها؛ وفي البخاري: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد"، وقضى ابن أشـوع بالوعـد، وذكر ذلك عن سمـرة بن جندب، قال البخاري: ورأيتُ إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع).
والله أسأل إن يطهر قلوبنا من الرياء، والنفاق، وسوء الأخلاق، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.