الغزو الصليبي للعالم الاسلامي
في خضم تلك الأحداث التي سادت العالم الإسلامي من انقسام دوله وتسارع انهيارها وتنازع ملوكها وسلاطينها وأمرائها وقادتها وإفناء بعضهم البعض بالحروب في التزاحم على السلطة والاستئثار بها.
في خضم تلك الأحداث كان العالم الإسلامي هدفا لعدوان انصب عليه من المغرب والمشرق.
فمن المغرب شنت أوروبا المسيحية عليه سبع حملات صليبية.
وفي بلاد الأندلس تتابعت حملات الإسبان الصليبية, وكانت البابوية صاحبة الدعوة لهذه الحروب.
ومن المشرق اقتحمت جيوش المغول (التتر) الدول الإسلامية في بلاد ما بين النهرين وتجاوزتها إلى إيران والعراق وآسية الصغرى وأخيرا بلاد الشام متجهة إلى مصدر.
وقد تمكنت دولة الأيوبيين ومن بعدها دولة المماليك من صد هذه الحملات في موقعتين شهيرتين (حطين) و (عين جالوت).
أما في بلاد الأندلس فكان الصراع على الملك بين الملوك والانشغال به عن أمور الدويلات المتصارعة القدر المحتوم للنهاية التي ختمت بها دولة الإسلام بعد حكم دام ثماني مائة عام.
الحروب الصليبية:
أسبابها وعواملها ترجع هذه الحروب في أسبابها إلى ثلاثة عوامل مجتمعة: دينية وسياسية واقتصادية. وترجع في أصولها البعيدة إلى القرن السابع الميلادي يوم انتصر المسلمون على الروم في وقعة اليرموك سنة 15هـ \ 636=637م وانسحابهم من سورية ثم انسحابهم من مصر ومن إفريقية بعد وقائع تم فيها النصر للمسلمين.
وقد رعى الإسلام أصحاب الديانات السماوية وأدخلهم في ذمة المسلمين أي في حمايتهم فعرفوا بأهل الذمة وعاهدهم أن يحمي أرواحهم ويحفظ أموالهم ويصون عقائدهم وممارسة ديانتهم في بيوت عبادتهم ومن أجل ذلك عرفوا بالمعاهدين, وفرض عليهم لقاء ذلك مبلغا يسيرا من المال يدفعونه كل عام يعرف بالجزية .
وفي العصر الأول للإسلام لم يمسس أهل الذمة سوء وقد عاشوا مع المسلمين في أمان وأفاد المسلمون من خبرتهم في نظام الإدارة وشئون المال.
وفي العصر العباسي الأول برزت ظاهرة التعصب الديني وأخذت تشتد في العصر الثاني والعصر الذي تلاه وألزم النصارى واليهود بارتداء ملابس تميزهم عن المسلمين عرفت (بالغيار), وازداد التمييز شدة في العصر الفاطمي وخاصة في عهد الحاكم بأمر الله (386 - 411هـ).
وامتدت ظاهرة التعصب الديني إلى دولة المرابطين والموحدين بالمغرب الأقصى, وكانت وفود الحجاج المسيحيين القادمين إلى بيت المقدس تلاقي كثيرا من العنت من السلاجقة حين آل إليهم حكم بلاد الشام فإذا عادوا إلى بلادهم تحدثوا بما لقوا وأضافوا إليه ما تبتدعه خيالاتهم من قصص مروعة تفجرت عنها صيحة دوى بها راهب يدعى (بطرس), لبس لباس النسك وعرف ببطرس الناسك, وفيها دعا إلى حرب المسلمين واسترداد بيت المقدس من أيديهم.
وقد دوت صيحته في أعقاب خطاب ألقاه البابا (أوربان الثالث) في مدينة كليرمون فران clermont ferrand) بفرانسا في 26 نوفمبر - تشرين الثاني - سنة 488 \ 1095م استجاب فيه لنداء من الإمبراطور البيزنطي ألكسيس كومنين يطلب منه العون ضد السلاجقة الأتراك وإعلان الحرب عليهم.
وقد استجاب لنداء البابا وصيحة الراهب فئات ثلاث: الفقراء والأقنان (أرقاء الأرض), وأمراء الإقطاع, وأصحاب التجارات. فأما الفقراء وهم الطبقة الكبرى فكانوا يعيشون في قلة وحرمان, تفتك فيهم الأوبئة التي كانت تجتاح أوربا ومثلهم الأقنان, وهم الأرقاء المرتبطون بأراضي السادة الإقطاعيين, يملكهم السيد الإقطاعي مع الأرض. فكان هؤلاء يحلمون ببلاد فيها كل النعيم ويطمعون بغفران الكنيسة لخطاياهم, وهو القوة الروحية الدافعة للحرب.
وأما أمراء الإقطاع فكانوا فئتين, فئة تملك اللقب والمال وفئة فقيرة تملك اللقب ولا تملك المال, ذلك أن شريعة الإرث في نظام الإقطاع كانت تقضي بتوريث الولد البكر اللقب والمال وتخص الآخرين من الأبناء باللقب دون المال, وكان يطلق عليهم اسم (المعدمين sans awoir) أي الذين لا يملكون شيئا أو يطلق عليهم اسم (بدون أرض sans terre) أي الذين لا يملكون أرضا.
وكان الأمراء المالكون للإقطاع في صراع فيما بينهم, وكانت الدعوة للحرب الصليبية سببا في عقد أيديهم بالصلح وتحويل الصراع إلى قتال المسلمين. أما الأمراء الذين لا يملكون فكانوا ينتزعون معيشتهم بالقتل والقتال, ينقمون على مجتمع خصهم بالحرمان, فكانت الدعوة لحرب المسلمين منفرجا لهم ومنعرجا في سلوكهم, فانضمت أفواجهم إليها طمعا في أرض يملكونها وغنائم ينعمون بها. وأما أصحاب التجارات فهم أصحاب المدن البحرية الذين يملكون السفن ويحلمون بالوصول إلى شواطئ بلاد الشام لإقامة علاقات تجارية مع مدنها, وقد حققت مدن جنوة وبيزا والبندقية الإيطالية أحلامها وجنت أرباحا كبيرة في نقل الحملات الصليبية والاتجار مع بلاد مصر والشام.
وقد تعاقبت الحروب الصليبية في سبع حملات في مدى مئتي عام:
الحملة الأولى:
تألفت هذه الحملة من جموع غفيرة غير منتظمة ولا مؤتلفة, وكان أكثرها من الفرنسيين, لأن الدعوة لحرب المسلمين جاءت من (بابا) فرنسي وصدرت من بلدة فرنسية ونادى بها راهب فرنسي. لذلك كان المسلمون يسمون الصليبيين بالفرنجة أي الفرنسيين.
وقد تولى قيادة تلك الجموع أمراء فرنسيون توجهوا بها بطريق البر واجتازوا بها مدينة القسطنطينية والتحموا في بر الأناضول مع سلاجقة الروم فأباد السلاجقة الكثير منهم, وتمكنت الحملة من شق طريقها إلى الحدود الفاصلة بين شرق الأناضول وبلاد الشام فافترقت إلى ثلاث فرق,
فرقة اتجهت شرقا واحتلت مدينة (الرها edesse) سنة 491هـ وأقامت بها دولة صليبية بزعامة (بودوان الأول baudouin)
وفرقة اتجهت نحو الجنوب ودخلت بلاد الشام باتجاه ساحل المتوسط واحتلت مدينة أنطاكية سنة 492هـ وأقامت فيها دولة صليبية بزعامة (بوهمند الثاني النورماندي bohemond ii) ثم اتجهت نحو القدس فوصلتها سنة 493هـ \1099م وأطبقت عليها بحصارها, ولم تتمكن الحامية الفاطمية من الدفاع عنها فاستسلمت ودخلها الصليبيون في يوم 15 تموز \ يوليو \ سنة 1099م وأثخنوا القتل في أهلها من مسلمين ويهود ومسيحيين أرثوذكس,
ويعترف المؤرخون الأوروبيون بهول ما فعله الصليبيون وفي ذلك تقول المؤرخة الألمانية (زوي أولدنبورغ zoe oldenburg) في كتابها عن الحروب الصليبية: (إن المذبحة التي أقدم عليها الصليبيون في اجتياحهم القدس تعد في عداد أكبر جرائم التاريخ) .
وقد أقام الصليبيون في القدس مملكة صليبية بزعامة أمير اللورين (غودفراده بويون godefroy de bouillon) وفي عام 1100م توجه لحصار عكا فأصابه سهم فقتل وخلفه أخوه (بودوان baudouin).
الحملة الثانية
في عام 539هـ \ 1144م استرد أمير الموصل عماد الدين زنكي مدينة الرها من الصليبيين فتألفت بسببها حملة صليبية ثانية بزعامة (كونراد الثالث ( conrad iii) ملك ألمانيا ولويس التاسع (louis ix) ملك فرانسا وقد عادت أدراجها بعد فشلها في حصار دمشق .
الحملة الثالثة
في عام 583هـ \ 1188م استرد الناصر صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس من الصليبيين بعد وقعة (حطين) فتألفت حملة صليبية ثالثة بزعامة فردريك بارباروس الأول ملك ألمانيا (fredric barberousse) و (فيليب أوغست plilippe auguste) ملك فرانسا و (ريتشارد قلب الأسد richard coeur de lion) ملك إنكلترا.
وقد سلك فردريك طريق البر واجتاز القسطنطينية إلى بر الأناضول وغرق أثناء عبوره نهرا في (كليكيا) وتشتتت حملته وعاد فيليب أوغست إلى فرانسا إثر مرضه. أما ريشارد قلب الأسد فقد عقد صلحا مع صلاح الدين منح الصليبيون بموجبه بعض الامتيازات.
الحملة الصليبية الرابعة
في عام 598 هـ \ 1202م تألفت حملة صليبية أعدها أمراء فرنسيون منهم (بودوان التاسع أمير فلاندر) و (تيبو الثالث أمير شامباني) و (لويس أمير بلوا) وآخرون, وكانت مصر هدفا لهم. وقد اتفقوا مع ملاحي البندقية على نقلهم إلى الإسكندرية . ولما علم الملك العادل الأيوبي بهذا الاتفاق, منح البنادقة امتيازات تجارية فتحول قادة الحملة إلى القسطنطينية فاجتاحوها وأقاموا فيها دولة لاتينية ولوا عليها بودوان التاسع ملكا وأعلنوا المذهب الكاثوليكي وقد استمرت هذه الدولة قائمة حتى سنة 658 هـ \1260م ولم تحقق هدفها كحملة صليبية.
الحملة الصليبية الخامسة
تألفت هذه الحملة سنة 615 هـ \ 1219م بزعامة (جان ده بريان jean de brienne) ملك بيت المقدس واتجهت إلى مصر فاستولت على مدينة دمياط ثم استردها المصريون وأجلوا الحملة عن مصر.
الحملة الصليبية السادسة
أعد هذه الحملة الملك (فردريك الثاني, ملك ألمانيا frederic ii) فقد توجه بحملته سنة 625 هـ \ 1228م إلى بلاد الشام بطريق البحر, وكان الملك الكامل, صاحب مصر, قد استنجد به ليعينه على أخيه الملك المعظم عيسى لكي ينتزع منه دمشق وفق شروط تم الاتفاق عليها منها تسليمه القدس وقدم فردريك بحملته إلى عكا . وكان الملك المعظم عيسى قد توفي وخلفه ابنه الملك المنصور داود فتصالح مع عمه الملك الكامل وسلمه دمشق وأعطاه بدلا منها مدن صرخد والشوبك والكرك.
وباستلام الملك الكامل لمدينة دمشق نفذ شروط الاتفاق وسلم فردريك مدينة القدس فدخلها وتوج نفسه ملكا عليها وعاد إلى بلاده وبذلك أنهى مهمة الحملة الصليبية التي قادها دون قتال.
الحملة الصليبية السابعة
جهز هذه الحملة الملك الفرنسي لويس التاسع الملقب, لورعه, بالقديس لويس, ووجهها نحو مصر, فقد رأى أن استرداد بيت المقدس عن طريق مصر أيسر من استردادها عن طويق بلاد الشام . فتوجه بحملة بحرية إلى مصر سنة 646 هـ \ 1249م واستولى على مدينة دمياط ثم توجه لحصار المنصورة وفي الموقعة التي جرت فيها بينه وبين المصريين في آخر عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب وزوجته شجرة الدر كتب للمصريين النصر وأسر الملك الفرنسي مع جملة من أمراء الحملة, ثم أطلق لقاء فدية كبيرة.
وقد توقفت بعد هذه الحملة الحملات الصليبية على بلاد الشام . غير أن
احتلال الصليبيين لبعض مدنها وقلاعها ظل قائما إلى أن جاءت دولة المماليك البحرية فجرد عليهم الملك الظاهر بيبرس البندقداري ومن بعده الملك قلاوون جيوشه وأخرجهم من بلاد الشام فتحررت منهم بعد مائتي عام ونيف من السنين قضوها في بعض مناطقها.
محاولة صليبية لغزو مصر من إفريقية
لم يبرح الملك لويس التاسع التفكير بغزو مصر وعزم على تنفيذ فكرته بغزوها عن طريق إفريقية (تونس) فقاد إليها سنة 669 هـ \ 1270م حملة, ولكن القدر كان أغلب منه فاختطفه الوباء وباءت خطته بالفشل
والخسران.