فضل الذكـــــــــر ...
عن معاذ بن جبل رضي الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، وبضربوا أعناقكم " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " ذكر الله عز وجل "
وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } (الأحزاب:41).
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه.
وصدأ القلب بامرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالإستغفار والذكر..
قال تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (الكهف:28).
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر؟ أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى او الرحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فرطٌ، لم يقتد به، ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك.
أنواع الذكـــــــــر ...
الذكر نوعان:
النوع الأول: ذكر أسماء الرب تبارك وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى، وهذا أيضاً نوعان:
- إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه، نحو (( سبحان الله عدد خلقه )).
- الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى عليه رسول الله -- من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل . وهذا النوع أيضاً ثلاثة أنواع:
1- حمدٌ. 2- وثناء. 3- ومجد.
فالحمدلله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا به، فإن كرر المحامد شيئاً بعد شيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمه والكبرياء، والملك كان مجداً.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، قال الله تعالى: مجدني عبدي.. (رواه مسلم).
النوع الثاني: من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه، وهو ايضاً نوعان:
- ذكره بذلك إخباراً عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا.
- ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدة.
فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.. ومن ذكره سبحانه وتعالى: ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضاً من أجل انواع الذكر.
فهذه خمشة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر. وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأضل الذكر.. ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة بالله، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من هذه الآثار، وإن أثمر شيئاً منها فثمرة ضعيفة.
الذكر أفضل من الدعاء ...
الذكر أفضل من الدعاء، لان الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا ؟!
ولهذا جاء في الحديث: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ".
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمدالله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، وقد أخبر النبي -- أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه الثناء والذكر، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجاباً.
فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته،وافتقاره وإعترافه، كان أبلغ في الإجابه وأفضل.
قراءة القرآن أفضل من الذكـــــــــر ...
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء هذا من حيث النظر إلى كل منهما مجرداً.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة -ذكر التهليل- والتسبيح، والتكبير، والتحميد - أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء انفع له من قراءة القرآن، مثاله: أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبة واستغفاراً، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
فهكذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً.