بالإضافة إلى الصدمة التي تلقاها الشاعر في زواجه و في حبه الأول ، فقد تعرض إلى كارثة كبرى تمثلت بوفاة والده ، و لم يكن الشاعر قد نال بعد إجازة الحقوق . و شغل الشاعر الشاب بعلاج والده و الإهتمام به من الناحية المادية و النفسية . و حين أحس الشاعر بقرب وفاة والده ، انتقل به إلى مسقط رأسه " توزر " حيث توفي الشيخ الوالد في شهر أيلول من العام 1929 . و كانت وفاته خسارة كبرى هزت أركان الشاعر و بدلت نظام حياته ، بل كانت أكبر كارثة بتعرض لها في حياته و تؤثر على صحته و تصيب قلبه إصابة مباشرة . و بموت والده ، ألقيت على أبي القاسم أعباء مالية لم تمنعه من إتمام دراسته في كلية الحقوق في تونس و التخرج عام 1930 بإجازة الحقوق .
و في ديوانه إشارات واضحة و صريحة إلى تلك الكارثة التي ألمت به ، يظهر ذلك جلياً في قصيدته " يا موت " التي رثى بها والده حيث تقول :
يا موتُ ، قد مزقتَ صدري و قصمت بالأرزاء ظهري
و فجعتني في منْ أحبُّ و منْ إليه أبثُّ سري
و رزأتني في عمدتي و مشورتي في كل أمرِ
ثم يعود في قصيدته " قيود الأحلام " فكيف لنا عن الأعباء التي ينوء تحتها و تتمثل بالقيام بأعباء العائلة التي تركها والده حين يقول :
لكنني لا أستطيع فإنّ لي أماً يصدُّ حنانها أوهامي
و صغارَ أخوانٍ يرون سلامهم في الكائنات معلقاً بسلامي
فقدوا الأبَ الحاني فكنتُ لضعفهمْ كهفاً يصدُّ غوائلَ الأيامِ
لكن الشاعر استطاع أن يتجاوز تلك المرحلة حيث تحسنت حال المادية و عاد إليه بعض التحسن الصحي ، يدل على ذلك ما جاء في إحدى قصائده التي يقول فيها :
ما كنتُ أحسبُ بعد موتك يا أبي و مشاعري عمياءُ بالأحزانِ
أني سأظمأ للحياة و أحتسي من نهرها المتوهج النشوانِ
و أعود للدنيا بقلب خافقٍ لحبّ و الأفراح و الألحانِ
فإذا أنا ما زلتُ طفلاً مولعاً بتعقب الأضواء و الألوانِ
كان الشابي على إثر تخرجه من الزيتونة ، أو قبل بقليل ، يعلم أنه مريض في قلبه ؛ لكنّ أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة إلاّ سنة 1929 ، و كان والده قد رغب إليه في أن يتزوج . فلم يجد أبو القاسم بداً من أن يستشير طبيباً ، ليوفق بين رغبة والده و بين مقتضيات حالته الصحية . و قد توجه الشابي برفقة صديقه الصحفي السنوسي لاستشارة الدكتور محمد الماطري ، النطاسي البارع في تونس ، و لكن لم يكن قد مضى عليه يومذاك في ممارسة الطبّ سوى عامين . و بسط الدكتور الماطري للشابي حالة مرضه ، و حقيقة أمر ذلك المرض كما ذكر له أن هناك حالاتٍ كثيرةً آراء كبار الأطباء في مرض القلب . غير أنه حذره على كل حالٍ عواقب الإجهاد الفكري و الجسدي . و بناء على رأي الدكتور الماطري و امتثالاً لرغبة والده عزم الشابي على الزواج . و لكن يبدو أن حياته الزوجية لم تبدأ فعلاً قبل عام 1930 .
لكن الشابي ، يبدو أنه كان يحمل بذور مرضه منذ طفولته ، فقد ازدادت حالته الصحية تدهوراً بعد الزواج لأسباب متعددة : منها تطور المرض مع الزمن ، ثم ضعف بنية الشاعر ، و الأحوال السيئة التي كانت تحيط به في حياته الطالبية ، و وفاة والده ، و حبيبته الصغيرة ، و إهماله لنصائح الأطباء في الاعتدال في حياته الفكرية و الجسدية .
و قد عالج الشابي مجموعة من أطباء القلب و منهم الطبيب الفرنسي الدكتور كالو ، و كانوا ينصحونه بالإقامة في الأماكن المعتدلة المناخ . ثم بدأت النوبات القلبية الحادة تنتاب الشاعر قبل أن يرزق ولده البكر في أواخر عان 1931 . أما أخا الشاعر محمد الأمين الشابي فإنه يروي للسنوسي خبر نوبة انتابت الشاعر عام 1930 حيث يقول : " كان يعتلج من ضائقة صدرية من ذات القلب فزعت لها أمه و زوجته ( و أخوه ) عندما كان أبو القاسم يخرز لهم بعينين لا ترجوان معونة من أحد ، إلاّ من قلبه لو استعاد اتزانه … نوبة دامت ساعتين يقلب في أثنائهما وجهه و لا ينبس إلا بقطرات من العرق تتلألأ على وجهه بالجهد الذي تبذله الحياة لتحقيق وجودها . و نحن نشرئب لنغيثه بشيء يطلبه ( و لا ندري ما هو ) … ساعتين من هذا الفزع الجهيد تقريباً …. ثم هجعت النوبة ، إذ لان وجهه و رأينا عينيه تطمئناننا عن فوزه بالراحة . و بالفعل هيؤ و بدأ يسوي ثيابه و رقبة قميصه . ثم تكلم منشرحاً صوته انشراح من حط وزره و نزع الحمل الجهيد ، و بادرنا للاستجابة لأمره مغتبطين :
أعطني ورقاً ، و القلم من جيب فرملتي . ( و أعطيناه ما طلب ) . فأخذ يكتب حالاً . أذكرها الآن ، فهي هذه القصيدة :
يا إله الوجود ، هذي جراح في فؤادي تشكو إليك الدواهي و لم يحسن الشابي مداراة مرضه ، بل استمر يرهق نفسه بما كان الأطباء قد نهوه عنه " .
و قضى الشابي صيف 1932 مستشفياً و راح يتنقل بين المصايف و المنتجعات ، و لكنّ ذلك لم يجده نفعاً . بل ساءت حاله في آخر عام 1933 و اشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش حتى إذا مرّ الشتاء و أقبل الربيع حلام عليه أطباؤه الكتابة و المطالعة و طلبوا إليه أن ينتقل إلى " حامة تورز " طلباً للراحة و هي موضع فيه عين ماء حار تستشفي بها بعض العلل . و أخيراً أعيا الداء على التمريض المنزلي ، فغادر الشابي إلى العاصمة حيث دخل مستشفى الطليان في الثالث من تشرين الأول سنة 1934 قبل وفاته في التاسع منه عند الساعة الرابعة صباحا من نهار الاثنين . و نقل جثمانه في أصيل ذلك اليوم إلى " توزر " و دفن فيها . و قد نال الشابي بعد وفاته عناية كبرى ، و تألفت عام 1946 لجنة لإقامة ضريح له نقل رفاته إليه باحتفال مهيب في الثالث عشر من شهر أيار سنة 1946 حضره جمع غفير من رجال العلم و الأدب و السياسة